0
الحمدُ لله نَحْمَده، ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يَهدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يُضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحْدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحابته وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

فيا عباد الله:
اتَّقوا الله - تعالى - وراقِبوه في السرِّ والعلانية، واحذروا مِن التساهُل والتكاسُل فيما أوجب عليكم، ولا تُلهِينَّكُم مشاغلُ الدنيا عن أعمال الآخِرة، فتفوِّتوا عليكم الخيرات الكثيرة والتِّجارة الرابحة، واعلموا أنَّه قد ابتُلي كثيرٌ من الناس بالتأخُّر عن حضورِ صلاة الجُمُعة، وأصبح يراقب وقت حضور الخطيب، والأكثر لا يحضُر إلَّا بعد دخوله، وبذلك يفوِّت على نفْسه الخير الكثير، ويُصبِح ذلك العمل عادةً له فلا يحسُّ بخطئه وتقصيره؛ ليرجعَ إلى ربه ويتوب.

ففي الحديثِ عنِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((إذا كان يومُ الجُمُعة وقفتِ الملائكة على باب المسجد يكْتُبون الأوَّل فالأوَّل))[1].

وفي حديثٍ عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((مَن اغتسل يومَ الجُمُعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنَّما قرَّب بدنه، ومَن راح في الساعة الثانية فكأنَّما قرَّب بقرة، ومَن راح في الساعة الثالِثة، فكأنَّما قرَّب كبشًا أقرن، ومَن راح في الساعة الرابعة، فكأنَّما قرَّب دجاجةً، ومَن راح في الساعة الخامسة، فكأنَّما قرَّب بيضةً، فإذا خرَج الإِمام حضرتِ الملائكةُ يستمعون الذِّكْر))[2].

فيا عباد الله:
اشكروا الله على نِعمة الإسلام وتخصيص هذه الأمَّة المحمديَّة بهذا اليوم العظيم يوم الجُمُعة الذي ضلَّتْ عنه الأمم قبلنا وهدَانا الله له.

ففي الحديثِ عن رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((نحن الآخِرون السابقون يومَ القيامة، بَيْدَ أنَّهم أُوتوا الكتاب مِن قبلنا، ثم إنَّ هذا يومهم الذي فرَض الله عليهم فاختلفوا فيه فهَدانا الله له، فالناس لنا فيه تَبَع، اليهود غدًا والنصارى بعدَ غد))[3]؛ لفظ البخاري، وفي لفظ لمسلم: ((أضلَّ الله عن الجُمُعة مَن كان قبلنا، فكان لليهود يومُ السبْت، وكان للنصارَى يوم الأحد، فجاء الله بنا، فهدانا ليومِ الجُمُعة فجعَل الجُمُعة والسَّبت والأحد، وكذلك هم تَبَعٌ لنا يوم القِيامة، نحن الآخرون مِن أهل الدُّنيا والأوَّلون يومَ القيامة المقضي بينهم قبلَ الخلائق))[4].

فاشْكُروا الله - يا عباد الله - على هذا الفضْل العظيم مِن الله، اشكروه شكرًا عمليًّا، بادروا للفضائلِ واغتنموا أوقاتَ التِّجارة الرابِحة، وانظُروا إلى تفاضُل الأوقات في الحُضور والمبادرة، قارِنوا بيْن البَدنة في الساعة الأُولى وبيْن البيضة في الساعة الخامِسة، واعلموا أنَّه لا أحدَ مِنكم يرضَى بالبقرة عن البَدنة، ولا بالكَبْش عن البقرة، ولا بالدَّجاجة عن الكبْش، ولا بالبيضة عن الدَّجاجة، فكيف لا يَرْضى في أمورِ دُنياه بالقليل عنِ الكثير، ويرضَى في أمور أُخراه بالقليل عن الكثير؟! يجلِس الأكثر مِنكم في أعمال دُنيويَّة ربما صارتْ ضررًا ووبالًا عليه، حتى يُفوت عليه ساعات الفضائل، وربَّما لم يحضرْ إلَّا بعدَ دخول الإمام وطيِّ الملائكة لصُحفهم، وبذلك يفوت عليه الكثير مِنَ الفضل الذي لا يعوِّضه شيء مِن أمور الدُّنيا الفانية.

عباد الله:
يوم الجُمُعة عيد الأسبوع، وموسم مِن مواسم الفضْل، وفيه خُلِق أبوكم آدم، وفيه أُدخِل الجنَّة، وفيه أُخرج منها، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يُوافِقها عبدٌ مؤمن يسأل الله فيها خيرًا إلا أعْطاه إيَّاه، كما ثبتتْ بذلك الأحاديث الصحاح، فتفرَّغوا - يا عباد الله - في هذا اليوم العظيم لطاعةِ الله، وأكثروا فيه مِن الصلاة على رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبادِروا بالحضور إلى الصلاة، وتقدَّموا في الصفوف الأوَّل فالأول، ولا تتركوا فُرَجًا في الصفوف التي أمامَكم فيتخطَّى رقابكم مَن يأتي بعدَكم؛ ليصلَ إليها فيؤذيكم ويجني على نفْسه، فيجمع بيْن التأخُّر، وفوات الفضيلة وإيذاء المصلِّين، وقد نهَى رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن ذلك.

قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - لرجلٍ رآه يتخطَّى رِقابَ الناس: ((اجلسْ فقد آذيتَ وآنيتَ))[5]، والمراد بالإِيذاء انتهاكُ حُرْمة المسلمين بتخطِّي رِقابهم، وإشغالهم وإلِحاق الضرَر بهم، والمراد بآنيت؛ أي: تأخرت بالمجيء إلى الجُمُعة، فيَنبغي التبكير والتقدُّم في الصفوف الأوَّل فالأوَّل، فقد أخْبر رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ خير صُفوفِ الرِّجال أولها، وشرها آخرُها، وحين رأى - صلوات الله وسلامه عليه - في أصحابه تأخرًا قال لهم: ((تَقدَّموا فأتمُّوا بي وليأتمَّ بكم مَن بعدَكم، لا يزال قومٌ يتأخَّرون حتى يؤخِّرَهم الله))[6].

فاتَّقوا الله - يا عباد الله - والتَزموا هَدْيَ رسولِ الله.

وفَّقَنا الله جميعًا لما يحبُّه ويرْضاه وجنَّبنا مساخطه ومعاصيَه.

أعوذ بالله مِن الشيطان الرجيم، قال الله العظيم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الجمعة: 9-10].

بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونَفَعني وإيَّاكم بما فيه مِن الآيات والذِّكْر الحكيم، وتاب عليَّ وعليكم، إنَّه هو التوَّاب الرحيم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين مِن كلِّ ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.

واعْلَموا - رحمكم الله - أنَّ يومَكم هذا يوم عظيم خَصَّه الله بفضائلَ ينبغي للعبدِ الناصح لنفسه ألاَّ تفوته، كما أنَّه عطلةٌ للكثير عن العمل.

فعليه أن يشكُر الله على هذا الفضل، وهذه النِّعمة يستعدُّ لحضور الصلاة مبكرًا يتنظَّف ويلبس أحسنَ ثيابه، ويُزيل الشَّعر المشروع إزالته، ويقلِّم أظفارَه، فيأتي إلى الصلاة على أحسنِ هيئة وأطيبِ رائحة، وليحذر كلَّ الحَذَر ممَّا اعتاده البعضُ من قضاء عطلة الأسبوع، وخصوصًا يوم الجُمُعة في الأماكن البعيدة عنِ الجُمَع والجماعة، فقدِ اعتاد البعضُ التفرُّغَ في يوم الجمعة للهو واللعب ممَّا يفوِّت عليه فضل هذا اليوم، ويوقعه في المعصية والطَّبْع على قلْبه بالتهاون بصلاة الجُمُعة.

فاتَّقوا الله - يا عباد الله - واحذروا التفريط والإهْمال.


[1] جزء من حديث أخرجه البخاري رقم (929) - الفتح: (2/407)، وأخرجه مسلم رقم (850).
[2] أخرجه البخاري رقم (881) - الفتح: (2/336)، ومسلم (850).
[3] أخرجه البخاري (2/292، 294)، ومسلم (855).
[4] أخرجه مسلم (856).
[5] سبق تخريجه (ص: 64).
[6] أخرجه مسلم (438).

إرسال تعليق

 
Top