0
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ليس منا من لم يتغن بالقرآن وزاد غيره يجهر به" .. " ليس منا من لم يتغن بالقرآن".
قال ابن حبان -رحمه الله تعالى- في الإحسان ( 1 / 328 ) معنى قوله صلى الله عليه وسلم (ليس منا) : " أي ليس مثلنا في استعمال هذا الفعل؛ لأنا لا نفعله، فمن فعل ذلك فليس مثلنا".
وقال العيني -رحمه الله تعالى-:  " أي ليس من أهل سنتنا، وليس المراد أنه ليس من أهل ديننا" عمدة القارئ (25/ 182) . وقال التوربشتي-رحمه الله تعالى-: " المعنى ليس من أهل سنتنا أو ممن تبعنا في أمرنا، وهو وعيدٌ، ولا خلاف بين الأمة أن قارئ القرآن مثابٌ في غير تحسين صوته فكيف يجعل مستحقاً للوعيد وهو مأجور؟ "
وحمله الطيبي-رحمه الله تعالى- على معنى آخر فقال:" ويمكن حمله على التغني أي ليس منا معشر الأنبياء من لم يحسن صوته بالقرآن ويستمع الله منه، بل يكون من جملة من هو نازلٌ عن مرتبتهم، فيثاب على قراءته كسائر المسلمين، لا على تحسين صوته كالأنبياء ومن تبعهم فيه".
وأما المراد من التغني بالقرآن، فهناك ستة أقوالٍ:
أحدها: تحسين الصوت.
الثاني: الاستغناء. و يؤيده أن البخاري-رحمه الله تعالى-: عقد في صحيحه باباً قال فيه:
باب من لم يتغَنَّ بالقرآن وقوله تعالى:﴿ أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْك الْكِتَاب يُتْلَى عَلَيْهِمْ ﴾ عمدة القارئ(25/ 182.
وذكر الحافظ في فتح الباري أن البخاري أشار بهذه الآية إلى ترجيح تفسير ابن عُيَيْنَة: يَتَغَنَّى يَسْتَغْنِي، وذكر الطبري عن الشافعي أنه سئل عن تأويل بن عيينة التغني بالاستغناء فلم يرتضه، وقال: لو أراد الاستغناء لقال لم يستغن، وإنما أراد تحسين الصوت.
الثالث: التحزن قاله الشافعي.
الرابع : التشاغل به، تقول العرب تغنَّى بالمكان أقام به.
فيكون معنى الحديث-كما قال الحافظ ابن حجر-: الحث على مُلازمة القرآن وأن لا يُتَعَدَّى إلى غيره, وهو يؤول من حيث المعْنى إلى ما اختَاره البخاري من تخصيص الاستغناء، وأنه يستغنى به عن غيره من الكتب.
الخامس: ما حكاه ابن الأنباري في " الزَّاهر" قال: المراد به التلذذ و الاستحلاء له، كما يستلذّ أهل الطَّرب بالغناء, فأطلق عليه تغنِّيا من حيث أنَّه يُفْعَل عنده ما يفعل عند الغناء.
السادس: وهو أن يجعله هِجِّيرَاه كما يجعل المسافر والفارغ هِجِّيرَاهُ الغناء.
وقيل: المراد من لم يغْنِه القرآن وينفعه في إيمانه ويُصدِّق بما فيه مِن وعْدٍ ووعيد، وقيل: معناه من لم يرتح لقراءته وسماعه, وليس المراد ما اختَاره أبو عُبَيْد أنه يحصِّل به الغنى دون الفقر, لكنَّ الَّذي اختاره أبو عبيد غير مدفوعٍ إذا أريد به الغنى المعنوي وهو غنى النفس وهو القناعة، لا الغنى المحسوس الذي هو ضد الفقر, لأن ذلك لا يحصل بمجرد ملازمة القراء، إلا إن كان ذلك بالخاصية, وسياق الحديث يأْبى الحمل على ذلك، فإنَّ فيه إشارة إلى الحث على تكلُّف ذلك, وفي توجيهه تكلُّف، كأنَّه قال: ليس منا من لم يتطلَّب الغنى بملازمة تلاوته.انظر فتح الباري(9/ 70-72).
وقال الحافظ -رحمه الله تعالى-:
"وفي الجملة ما فسَّر به ابن عيينة ليس بمدفوعٍ, وإن كانت ظواهر الأخبار ترجح أن المراد تحسين الصوت ويؤيده قوله:" يجهر به" فإنها إن كانت مرفوعةً    قامت الحجَّة, وإن كانت غير مرفوعةٍ فالراوي أعرف بمعنى الخبر من غيره ولا سيما إذا كان فقيهًا, وقد جزم الحليمي بأنها من قول أَبي هريرة رضي الله عنه" إلى أن قال:
و الحاصل أنه يمكن الجمع بين أكثر التأويلات المذكورة ، وهو أنه يحسن به صوته جاهراً به مترنماً على طريق التحزن، مستغنياً به عن غيره من الأخبار، طالباً به غنى النفس، راجياً به غنى اليد، وقد نظمت ذلك في بيتين:
تغـن بالقرآن حسـن بـه******الصوت حزينا جاهرا رنم
واستغن عن كتب الألي طالبا******غنى يـد والنفس ثم الزم
ثم قال:
ولا شك أن النفوس تميل إلى سماع القراءة بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم؛ لأن للتطريب تأثيراً في رقة القلب وإجراء الدمع، وكان بين السلف اختلافٌ في جواز القرآن بالألحان، أما تحسين الصوت وتقديم حسن الصوت على غيره، فلا نزاع في ذلك" انظر فتح الباري(9/72)و فيض القدير(5 /387 - 388 ).
وقد فصل الإمام النووي في التبيان في حكم القراءة بالتمطيط والألحان حيث قال:
" أجمع العلماء رضي الله عنهم من السلف والخلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار أئمة المسلمين على استحباب تحسين الصوت بالقرآن، وأقوالهم وأفعالهم مشهورةٌ نهاية الشهرة، إلى أن قال:
وقال العلماء رحمهم الله فيستحب تحسين الصوت بالقراءة وترتيبها ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط، فإن أفرط حتى زاد حرفاً أو أخفاه فهو حرامٌ،  وأما القراءة بالألحان فقد قال الشافعي- رحمه الله- في موضع: أكرهها، قال أصحابنا: ليست على قولين بل فيه تفصيل، إن أفرط في التمطيط فجاوز فهو الذي لم يكرهه، وقال أقضى القضاة الماوردي في كتابه الحاوي :
القراءة بالألحان الموضوعة إن أخرجت لفظ القرآن عن صيغته، بإدخال حركاتٍ فيه أو إخراج حركاتٍ منه أو قصر ممدودٍ أو مد مقصورٍ أو تمطيطٍ يخفي به بعض اللفظ، ويتلبس المعني فهو حرامٌ، يفسق به القارىء، ويأثم به المستمع؛ لأنه عدل به عن نهجه القويم إلى الاعوجاج، والله تعالى يقول: ﴿قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ الزمر:28،قال: وإن لم يخرجه اللحن عن لفظه وقراءته على ترتيله كان مباحاً لأنه زاد على ألحانه في تحسينه، هذا كلام أقضى القضاة" التبيان في آداب حملة القرآن ص 58-60.
والحمد لله رب العالمين

إرسال تعليق

Emoticon
:) :)) ;(( :-) =)) ;( ;-( :d :-d @-) :p :o :>) (o) [-( :-? (p) :-s (m) 8-) :-t :-b b-( :-# =p~ $-) (b) (f) x-) (k) (h) (c) cheer
Click to see the code!
To insert emoticon you must added at least one space before the code.

 
Top