الحمد لله الذي فرض الصلاة علينا وجعلها
صِلةً بينه وبين عباده، سبحانه فرَض فرائض فلا تضيِّعوها، وحدَّ حدودًا فلا
تعتدوها، وحرَّم أشياء فلا تَنتهِكوها، وأشهد أن لا إله إلا الله القائل: ﴿
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
﴾ [البقرة: 43]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل من صلى وصام وعَبَدَ
الله حقَّ العبادة - صلى الله عليه وسلم - الموصي بالصلاة والحفاظ عليها
وهو يُحتضَر في النَّزْع الأخير، ((الصلاةَ الصلاةَ، وما مَلكتْ
أيمانُكم))، صلى الله عليه وعلى آله، ورضي الله عن صحابتِه القائمين على
أمر الله، المؤدِّين فرائض الله، المطبِّقين لما جاء به الرسول، أولئك
الذين هداهم الله فبهداهم اقتده، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا أيها الناس:
اتقوا الله حقَّ التقوى، واستَمسِكوا من
الإسلام بالعُروة الوثقى؛ فإن تقواه عُنوان السعادة، والإخلال بها عُنوان
الشقاوة، فالإنسان يَسعَد بتقوى ربه وقوة صِلته به، فكلما ازداد من طاعته
ازداد منه قُربًا، وما أبغض أحد طاعة الله إلا ناصَب الله بالمحاربة، ولا
أحد يستطيع محاربة خالِقه ومربِّيه، ((مَن عادى لي وليًّا، فقد آذنته
بالحرب))[1]،
وثمرة الطاعة في الدنيا الأنس بالله وبأوليائه، وارتياحه النفسي؛ لإيمانه
بعاقِبة ذلك، وثمرة المعاصي الوحشةُ من ربه؛ لعدم ارتياحه النفسي، وأما في
الآخرة، فثواب السعيد الجنة، وثواب الشقي النار، قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ *
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ
رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ
سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ
وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾
[هود: 106 - 108]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن كلَّ أمتي يدخلون
الجنةَ إلا مَن أبى))، قالوا: ومَن يأبى يا رسول الله؟! قال: ((مَن أطاعني
دخل الجنَّةَ، ومن عصاني فقد أبى))[2]، ومن أجلِ هاتين الدارين أرسل الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأنزل عليه قرآنًا عربيًّا؛ ليُنذِر أم القرى ومن حولها.
عباد الله:
إن من أوجب الواجبات، وأعظم الطاعات - ما
فرَضه الله من الصلوات الخمس في اليوم والليلة بعد الشهادتين، جاء أعرابي
إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ماذا فرض الله عليَّ
من الصلوات؟ قال: ((خمس صلوات في اليوم والليلة))، قال: هل عليَّ غيرُهن؟
قال: (لا، إلا أن تطوَّع شيئًا))[3]،
فما أعظمَه من واجب! هي شعار المؤمنين، وعُنوان المتقين! فوقتُها مُفرَّغ
لمناجاة رب العالمين وحمده والثناء عليه، حيث يبدأ المصلي بتعظيم ربه
قائلاً: الله أكبر، كاشفًا الحجاب بينه وبين ربه برفع يديه، منظِّفًا ثوبه
وبدنه وبقعته التي يصلي فيها من أدران النجاسات، رافعًا الحدثَ الأكبر
بالغسل والحدثَ الأصغر بالوضوء؛ ليُطهِّر قلبه في هذا الوقت الذي يُناجي
ربَّه من أدران الذنوب والآثام، فالمحافظة على هذه الصلوات وأدائها في
أوقاتها فرضٌ على كل مسلم بنص كتاب الله وسُنَّة رسوله وإجماع المسلمين؛
فمن الكتاب قوله تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ
﴾ [البقرة: 43]، ومن السُّنة قوله لمعاذ حين أرسله إلى اليمن؛ ليُعلِّمهم
فروضَ الإسلام: ((فإن هم أطاعوك بذلك، فأعْلِمْهم أن الله فرَض عليهم خمس
صلوات في اليوم والليلة))، قال الإمام أحمد - رحمه الله -: لا حظَّ في
الإسلام لمن ترَك الصلاة، وقد كان عمر يكتب إلى الآفاق أن أهمَّ أمورهم
عنده الصلاة، فمن حفِظها حفِظَ دينَه، ومن ضيَّعها فهو لما سواها أضيع، ولا
حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة، قال: فكل مستَخِف بالصلاة مستهين بها،
فهو مستخف بالإسلام مستهين به، وإنما حظُّهم من الإسلام على قدر رغبتِهم في
الصلاة، فاعرف نفسك يا عبد الله، واحذر أن تلقى الله ولا قدر للإسلام
عندك؛ فإن قَدْر الإسلام في قلبك كقدر الصلاة في قلبك، وقد جاء الحديث عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((الصلاة عمود الدين)).
ألست تعلم أن الفسطاط - يعني الخيمة - إذا
سقط عمودُه، سقط الفسطاط، فلم ينتفع بالأطناب ولا بالأوتاد، وإن أقمتَ
العمودَ، انتفعت بالطُّنُب والأوتاد، وكذلك الصلاة من الإسلام، وجاء الحديث
أن أول ما يُسأل عنه العبد يوم القيامة من عملِه الصلاة؛ فإن تُقبِّلت منه
صلاته، تُقبِّل منه سائر عملِه، وإن رُدَّت عليه، رُدَّ عليه سائر عمله،
فالصلاة أول فروض الإسلام العملية، وهي آخر ما يُفقَد من الدين، فهي أول
الإسلام وآخره، فإذا ذهب أوله وآخره، فقد ذهب جميعه، قال الإمام أحمد: كل
شيء يذهب آخره فقد ذهب جميعه، فإذا ذهبت صلاة المرء ذهب دينه، قال - صلى
الله عليه وسلم - في وصْف مَن تركها: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة،
فمَن تركها فقد كفَر))، وفي رواية: ((بين العبد وبين الكفر ترْك الصلاة))،
وجعل الله إقامة الصلاة علامة للكفِّ عن قتْل المشركين، قال تعالى: ﴿ فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ
وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ
وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
﴾ [التوبة: 5]، ولتارك الصلاة عالمًا عامدًا عقوباتٌ دنيويَّة وأخروية،
والعقوبة في الدنيا إذا خرج وقتُها وهو تارك لها من غير عُذرٍ شرعي - أن
يستتاب ثلاثًا، فإن تاب وإلا قُتِل، فإن كان جاحدًا لوجوبها، فهو مُرتد
مُباح الدم والمال، وتُطلَّق زوجته، إلا إذا تاب وعاد إلى الصلاة، وإن
تركها مُتساهلاً، فهو أيضًا يُقتَل، وليس المقصود من ترْك الصلاة كونه لا
يصلي مع الجماعة، إلا أن الجماعة واجبة؛ لما فيها من الفضل والخير الكثير،
فإذا صلاها الإنسان في بيته من غير عُذْر شرعي، صحَّت صلاته وأجزأته مع
الإثم ونقْص الثواب، والصبي الذي لم يبلُغ، صلاته نافلة، ويجب على وليِّه
أمرُه بالصلاة إذا بلغ سبعًا، ويَضرِبه عليها إذا بلغ عشرًا؛ تدريبًا له
وتعويدًا على محبة عبادة الله والقيام بشرعه ومحبَّته لا محبة الشيطان،
ويكون متهيئًا لتلقي التكاليف بعد البلوغ، ولوليه الأجر والثواب؛ قال - صلى
الله عليه وسلم -: ((مُرُوا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر))،
أما المجنون، فلا صلاةَ عليه؛ لفقْد عقله الذي يؤهِّله لتلقِّي التكاليف.
فاشكروا ربَّكم على ما منَحكم من العقول
السليمة التي تستنيرون بها المعرفة والحكمة، وتُميِّزون بها الحقَّ من
الباطل، وتهديكم إلى الصراط المستقيم، فمن أعمى الله قلبه، شابه الأنعامَ؛ ﴿
إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا
﴾ [الفرقان: 44]، وصار المجنون أحسن منه؛ لأنه غير مُعاقَب، وهم مُعاقبون؛
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رُفِع القلم عن ثلاثة: الصغير
حتى يَبلُغ، والمجنون حتى يُفيق، والنائم حتى يستيقظ))، فالصغير والمجنون
لا قضاء عليهما لما فاتهما من الصلوات، وكذلك الكافر والمرتد إذا رجعا إلى
الإسلام؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ
﴾ [الأنفال: 38]، وقوله - عليه السلام -: ((الإسلام يَجُبُّ ما قبله))،
وأما النائم، فيُصلِّي متى استيقظ من نومه، حتى ولو كان وقت نهي كبعد العصر
والفجر؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((مَن نام عن صلاة أو نسيها،
فليُصلِّها إذا ذكَرها، لا كفَّارة لها إلا ذلك))، وقال تعالى: ﴿ فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ [طه: 14]، ومثل النائم: المغمى عليه والمبنجُ والسكران، فيَقضون الصلاة من حين زوال العُذْر.
عباد الله:
إن الصلوات الخمس لها أوقات مُعيَّنة من اليوم والليلة، لا يَصِح إخراجها عن وقتها من غير عُذْرٍ شرعي؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا
﴾ [النساء: 103]، لما فرض الله الصلاة على نبينا محمد حينما عُرِج به،
اتَّبعه جبريل، فصلى به أول الوقت وآخره، فقال: ((يا محمد، الصلاة ما بين
هذين الوقتين))، فالواجب أن يُصلِّي المسلم كلَّ صلاة في وقتها على حسب
حاله واستطاعته وتمكُّنه من الطهارة، يتوضَّأ من الحدث الأصغر ويَغتسِل من
الحدثِ الأكبر، ولا يتيمَّم مع وجود الماء إلا لعُذر، ولا يصلي قاعدًا مع
الاستطاعة على القيام، فإن لم يَستطِع القيامَ صلى قاعدًا، فإن لم يستطع
فعلى جنبه أو مستلقيًا ورِجلاه إلى القبلة، ولا يؤخِّر الصلاةَ عن وقتها ما
دام عنده إدراكٌ، والحائض إذا طَهُرت قبل طلوع الشمس صلَّت الفجر، وإن
حاضت أو نَفِسَتْ بعد دخول وقت من الأوقات وقبل أن تُصليه، فإنها تقضيه إذا
طَهُرت.
فاتقوا الله عباد الله، وحافِظوا على
صلواتكم، وإن استهزأ بها الكفار والمنافقون؛ حيث لا يَعقِلون عقوبةَ ذلك،
واحذروا أن تتَّخِذوهم أصدقاء؛ فإنهم جلساء السوء، وأن تتولوهم؛ فإنهم
أولياء الشيطان.
فالمحافظة على الصلوات والبراءة من هؤلاء، من سجايا المتقين، وصِفات المؤمنين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا
دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 57].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم،
ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر
الله العظيم الكريم لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب،
فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] البخاري (6137).
[2] أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنة رسول الله 1/196 برقم (7280).
[3] أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب وجوب صوم رمضان 1/51 برقم (1891)، ومسلم في كتاب الصلاة، باب بيان الصلوات 1/40 برقم (11).
إرسال تعليق
Click to see the code!
To insert emoticon you must added at least one space before the code.