0

الباب الأول؛ الفكر المدخلي ودوره في الحرب الصليبية المعاصرة

خرج إلينا هذا الفكر الدخيل الذي يسمى بـ "الفكر الجامي" أو "المدخلي"، ليفت في عضد الأمة، وينبري لإضعافها، ويدعوا إلى استسلامها وخضوعها لأعدائها، تحت ذريعة ضعف المسلمين، وعدم القدرة على مواجهة أعداءهم... وما إلى ذلك من شبه واهية، وحجج ضعيفة، تردّها نصوص الكتاب والسنّة وإجماع الأمة.

وانخرط في حمل هذا الفكر المنحرف بعض ممن حسبوا على أهل العلم ولبسوا لباس السلفية - وهي منهم براء - واتبعهم على اثر ذلك أناس.


  • منهم من راقت لهم هذه الأفكار؛ كونها تلائم طبيعة تفكيرهم السقيم.

  • ومنهم من خدع بدعاوى أصحاب هذا الفكر الدخيل؛ اعتقادا منهم بصحة ما يدعون إليه، ولا سيما وهي تتنكر بزي السلفية وإتباع منهج السلف رضوان الله عليهم.

  • وآخرون وجدوا ضالتهم فيه؛ لأنهم ليسوا سوى أذنابا لأنظمة تحارب دين الله، فما أن يجدوا فكراً يزرع الفرقة والشقاق بين المسلمين إلا سارعوا إلى اعتناقه والترويج له، بغية تحقيق غاياتهم الدنيئة الرامية إلى الحطّ من الإسلام وإضعاف أهله، وبأي وسيلة تلوح أمامهم.

    ولذا كان لا بد من إلقاء الضوء على هذه الفئة الضالة من حملة هذا الفكر الضال، ومعرفة أفكارها، وكشف دعاواها وأباطيلها، والتحذير منها.

    بل إني أرى انه من الواجب بمكان على علماء الأمة وطلبة العلم فيها؛ أن ينبروا للتصدي لهؤلاء الضلال، من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

    بداية ظهور هذا الفكر:

    ظهرت على مر التاريخ الإسلامي كثير من الفرق والملل والنحل، تحمل أفكاراً شاذة ومنحرفة عن الخط السوي لدين الإسلام، ولقد كان دور أهل العلم متميزاً في صد هذه الأفكار وردها وكشف زيفها وانحرافها، بعد أن لعبت دوراً كبيراً في إشغال المسلمين وإضعاف وحدتهم وإبعادهم عن منهج الحق - منهج أهل السنة والجماعة –

    ومن هذه الفرق؛ الرافضة والمرجئة والخوارج، يضاف إليهم الجهمية والقدرية والجبرية... وما إلى ذلك من فرق، تتداخل أفكارها تارة، وتبتعد تارة أخرى، ولكنها في النهاية تصب في دائرة واحدة، مدارها حرف الإسلام عن الوجهة الصحيحة التي سار عليها السلف الصالح وقاد مسيرتها النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.

    واليوم ظهر إلى الوجود فكر منحرف، بدأ يلعب هو الآخر دوراً لا يقل خطورة عن تلكم الفرق التي تحدثنا عنها آنفاً، وبدأت ملامح ظهور ما يسمى بـ "الفكر الجامي" أو "المدخلي" تبرز إلى السطح بعيد أحداث غزو العراق للكويت، وبدأنا نسمع عن هذا الفكر من على ألسنة بعض المشايخ المنتسبين إلى العلم، ولم تكن هذه الأفكار آنذاك قد أخذت طريقها إلى التجانس بعد، حيث كانت تطرح بطريقة الفعل ورد الفعل على من أطلق عليه اسم "السرورية"، وهكذا صارت الحرب سجالا بين هذين الطرفين.

    ولسنا هنا بصدد الحديث عن الطرف الثاني، وإنما نريد التركيز على ما يسمى بـ "الفكر الجامي" أو "المدخلي" الذي يقال إن رائد هذا الفكر هو الشيخ محمد أمان الجامي - حبشي الأصل استوطن السعودية - وورث تركته من بعده الشيخ ربيع المدخلي وأتباع آخرون هنا وهناك، وعلى رأسهم علي الحلبي في الأردن وغيرهم، من أمثال المدعو العبيكان، صاحب "الفتاوى النارية" التي تدعو - وبكل بساطة - إلى خضوع المسلمين لأعدائهم وتسليمهم قياد أمرهم والعيش تحت رايتهم - وسميتها "الفتاوى النارية" لان مجمل هذه الفتاوى لن تؤدي بمن يأخذ بها إلا إلى نار الدنيا، قبل نار الآخرة والعياذ بالله –

    وهكذا بدأ هذا الفكر يأخذ طريقه إلى الوجود، ويتبناه البعض لأسباب عديدة سنتحدث عنها لاحقاً إن شاء الله.

    ويخطئ من يعتقد أن الشيخ الألباني رحمه الله كان أحد رواد هذا الفكر، الذي يحلو للبعض أن يسميه "فكراً ارجائياً"، حيث أن الشيخ الألباني رحمه الله - منذ أن بدأ دعوته القائمة على منهج الكتاب والسنة - كان حريصاً على إتباع النصوص والأدلة الشرعية في طرح أفكاره، لتي لقيت قبولاً واسعاً في أرجاء العالم الإسلامي، حيث أنها لم تخرج عن دائرة أهل السنة والجماعة بل إنها دعت وبقوة إلى العودة إلى منهج السلف الصالح والتمسك بسنة النبي عليه الصلاة والسلام وترك البدع والخرافات والضلالات، التي انتشرت في الأمة وغيرت الصورة الحقيقة لدين الإسلام الذي كان عليه رعيل الأمة الأول.

    فـ "الفكر المدخلي" لم يكن واضحا في وقت الشيخ كما هو عليه الآن، والظروف التي تمر بالأمة أخذت منحى مختلفا عما كان عليه الحال في الماضي، وبعض من حملة هذا الفكر الضال ومن يزعمون بأنهم من تلامذة الشيخ الألباني؛ لعبوا دوراً سيئاً في الإساءة إلى سمعته رحمه الله، حيث ظن الكثيرون بان ما يقوله هؤلاء قد قاله الشيخ رحمه الله قبل موته.

    وأذكر ما قاله الشيخ الألباني يوماً في حديثه عن "منهج التصفية والتربية" المشهور به أنه قال: (نحن صفّينا وما ربينا)، ولقد صدق رحمه الله، فان بعضا ممن يزعم أنهم من طلابه النجباء لم يكونوا على المستوى المطلوب من التربية الشرعية، حيث أن هذا النقص الكبير في تربيتهم قد ألقى بظلاله على هذا المنهج الخطير.

    كما أحب أن اذكّر بان الشيخ الألباني كان من القلائل الذين تصدوا لفتوى الشيخ عبد العزبز بن باز رحمه الله بجواز الاستعانة بالأمريكان إبان حرب الخليج، واعتبرها فتوى باطلة.

    وأما الشيخ بن باز رحمه الله؛ فمع كونه مخطئا في هذه الفتوى، إلا أن فضائله وما يعرف عنه من خير ودوره العظيم في نشر دعوة التوحيد بين الناس، يجعلنا نعتقد بان فتواه لم تكن إلا بناء على جملة معطيات رافقت تلك الأحداث، لا يسع المقام لذكرها، فوقع ضحية التلبيس وإخفاء الحقائق الذي تعرض له.

    واذكّر إخواني بان الشيخ بن باز رحمه الله كان من السباقين إلى دعم المجاهدين - ولاسيما أيام الحرب في أفغانستان والبوسنة - ومن يعرف الشيخ عن كثب يعلم تماما ما كان يقوم به من دعم شخصي للمجاهدين - سواء ماديا أو معنويا - [1].

    وكذا الحال بالنسبة للشيخ ابن عثيمين رحمه الله ودوره المشهود في دعم المجاهدين في الشيشان.

    وفي كل الأحوال؛ فالألباني وابن باز وابن عثيمين رحمهم الله، ليسوا سوى بشرا كباقي البشر، يخطئون ويصيبون، لهم مالهم، وعليهم ما عليهم، يؤخذ منهم، ويرد عليهم، ونحسبهم - والله حسيبهم - بأنهم كانوا صادقين في دعوتهم إلى التوحيد والذود عن السنّة ومحاربة البدعة، فجزاهم الله عن المسلمين خير الجزاء، وغفر الله لنا ولهم ولباقي المسلمين.

    أقول هذا؛ كي نخرج من طائلة الوقوع في العلماء، واتخاذهم غرضا للطعن والنقيصة، ولكي تبقى حاسة التمييز لدينا حية، حتى نفرق بين الضُلاّل من مشايخ السلطان ممن لبس لبوس أهل العلم وراح يفتي حسب هوى من يملي عليه من أولياء أموره، وبين من نحسبهم علماء بحق، إلا أنهم وقعوا في أخطاء، مثلهم مثل غيرهم، نسأل الله لنا ولهم المغفرة.

    وكما أسلفت، فنحن لا نغالي فيهم ولا في غيرهم، فان اخطأوا لا نتردد في تخطئتهم، مع الأخذ بنظر الاعتبار حفظ مكانتهم وهيبتهم وذكر محاسنهم، ونتذكر القول الجميل للإمام سعيد بن المسيب رحمه الله: (من الظلم لأخيك أن تذكر فيه أسوأ ما تعلم، وتنسى فضله).

    أهل بدعة وضلالة:

    لم ينقطع الزمان عن ظهور دعاة لبدع وضلالات ما أنزل الله بها من سلطان، وكل فرقة من هذه الفرق إنما تستند في دعواها على نصوص من الكتاب والسنّة، تقوم في وضعها في غير موضعها، نتيجة جملة من الأسباب، منها الجهل، ومنها الهوى، ومنها حب الرياسة والظهور... إلى غير ذلك من الأسباب.

    ثم تتطور هذه الأفكار حتى تصبح فكراً قائما بذاته، له أتباع ومناصرون، يدافعون عنه، بل وربما يموتون من أجله، اعتقادا منهم بأنهم أصحاب حق، ودعاة خير، ولكنهم ليسوا سوى دعاة ضلالة وفتنة.

    فالخوارج كانوا من اشد الناس عبادة، ولقد وصفهم النبيّ الكريم محمد عليه الصلاة والسلام: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية... إلى آخر الحديث).

    كل هذا؛ والخوارج ليسوا سوى فرقة ضالة لما كانت تدعو إليه من ضلالات وأباطيل، ولم يشفع لأصحابها شدة عبادتهم، فهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية - كما قال النبي صلى الله عليه وسلم –

    فالأصل دائماً؛ هي العقيدة الصحيحة، والمقياس الوحيد هو التحاكم إلى منهج الكتاب والسنة وعلى فهم السلف الصالح، لا على فهم الناس وأهواءهم.

    وما أجمل ما قاله شيخ الإسلام بن تيمية موضحا الأسباب التي تدعو لانتشار البدع وشيوعها: (إن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا سيما المتأخرون من الأمة الذين لم يحكموا معرفة الكتاب والسنة والفقه فيهما ويميزوا بين صحيح الأحاديث وسقيمها وناتج المقاييس وعقيمها، مع ما ينضم إلى ذلك من غلبة الأهواء وكثرة الآراء وتغلظ الاختلاف والافتراق، وحصول العداوة والشقاق، فان هذه الأسباب ونحوها، مما يوجب قوة الجهل والظلم اللذين نعت الله بهما الإنسان في قوله؛ {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}، فإذا منّ الله على الإنسان بالعلم والعدل أنقذه من هذا الضلال) [الفتاوى: ج 3 / ص 378].

    خطورة هذا الفكر:

    تكمن خطورة هذا الفكر بالتالي:

    1) تبنيهم لمنهج السلف الصالح ظلماً وزوراً:

    وذلك أن من يدعو إلى هذا الفكر يدّعي - زورا وبهتانا - بأنه من أتباع المنهج السلفي، وبالفعل فإن البعض من مظاهر المنهج السلفي قد تبدو عليهم ظاهرا - كإطلاق اللحية وتقصير الثوب والعمل ببعض السنن - مما يؤدى إلى اغترار البعض بهم، والوقوع في حبائلهم.

    ومع ذلك؛ فإن هذه الفرقة - وان لبست لبوس السلفية - إلا إن كشفها وبيان حقيقتها لن يكون صعبا، عندما تصطدم أفكارها بالحقائق الدامغة والثوابت القوية لمنهج أهل السنة والجماعة، فالادعاء والزعم سهل، ولكن العبرة بالعمل والتطبيق.

    وصدق الشافعي رحمه الله: (إذا رأيتم الرجل يسير على الماء أو يطير في الهواء، فلا تسمعوا له حتى تعرضوه على كتاب الله وسنّة رسوله عليه الصلاة والسلام).

    وهذا هو الأصل في معرفة دعاوى الناس وصدق زعمهم، الرجوع إلى الكتاب والسنّة مصداقا لقول ربنا عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59].

    وعند عرض أفكارهم على الكتاب والسنّة؛ سيكتشف الناس حقيقتهم العارية وكذب دعاواهم، ولن تنفعهم وسائلهم وطرقهم في إيهام الناس، وخداعهم وادعائهم الباطل بإتباعهم المنهج السلفي.

    ومن قدّر له معرفة بعض من هؤلاء الأدعياء للسلفية؛ لشدّه اجتماعهم على جملة صفات قل من خلا منها، كالثرثرة وكثرة الكلام وتصنيف الناس تحت مسميات مختلفة، فمنهجهم قائم على التبديع والتفسيق - بل وربما التكفير لمخالفيهم - وان كان مخالفوهم سلفيي العقيدة والمنهاج.

    أما ادعاءهم لإتباع علماء الدعوة السلفية؛ فهو الآخر ليس صحيحا، فهم كباقي أهل البدع والأهواء، ينتقون الفتاوى حسب ما تقتضيه أهواءهم وميولهم، وكم من فتاوى العلماء المعاصرين ردّوها أو تلاعبوا في نقلها، وقاموا بتدليسها على الآخرين، فمجالسهم مجالس لغو ولغط، وحديثهم يقسي القلوب لكثرة الغيبة والوقوع في الآخرين.

    وأما العلوم الذي يدّعون دراستها؛ فهي على عظم قدرها لم تزدهم سوى إصرارا على باطلهم واستغراقا في أضاليلهم، لان العبرة في العلم - مهما سما وعلا - أن يكون نافعا لصاحبه.

    وقديما قال الإمام أحمد رحمه الله قولته الشهيرة، التي توضح ضابط هذا العلم، بقوله: (أصل العلم خشية الله) [فضل علم السلف على الخلف: 52]، استدلالا بقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28.

    فما فائدة علمهم وهم يدعون إلى مولاة الأعداء من اليهود والنصارى والرافضة ومن سار في ركابهم من عرب الأمة، تحت ذرائع واهية، لا يقبلها من عنده مسكة من عقل! وما أثر هذا العلم في نفوسهم وهم يصطفون مع أعداء الأمة في خندق واحد؟! وما جدوى هذا العلم الذي لم يربهم على سمت الإسلام ويزد فيهم تقوى الله ومخافته؟! وما فائدته إذ لم يتصفوا بخلق الإسلام الرفيع، فتكون مجالسهم مجالس علم بحق بدلا من أن تكون مجالس غيبة ونميمة ووقوع في الآخرين؟!

    يقول ابن القيم رحمه الله: (كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها؛ فلا بد أن يقول على الله غير الحق، في فتواه وحكمه في خبره وإلزامه) [الفوائد: ص 100].

    لقد كان الأجدر بمن يتعلم العلم؛ أن يعمل به، لا أن يتخذه نصوصا خاوية، يسهل حفظها من غير أن يعمل بها، فالعلم النافع هو ما اقترن بالعمل النافع، الذي ينفع صاحبه وينفع به الآخرين، أما علم لا ينفع صاحبه فلن يكون إلا وبالا عليه.

    فعن النبي صل الله عليه وسلم انه قال: (اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع، ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع) [صحيح الجامع: 1297].

    وعنه عليه الصلاة والسلام انه قال: (من تعلم العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه؛ ادخله الله جهنم) [المصدر السابق: 6158].

    2) تمييعهم لقضايا الأمة المصيرية:

    يلاحظ على أصحاب هذا الفكر بأنهم لا يكترثون لما يجري للأمة من مصائب وآلام على يد أعدائها، وكأنهم لا يعيشون في كنفها، بل أنهم يسارعون في كل مرة إلى التقليل من شأن الأحداث الجسام التي تمر بالأمة.

    فلا توجد قضية على وجه الأرض يعيشها المسلمون من أفغانستان إلى كشمير إلى الشيشان مروراً بفلسطين وانتهاءً بالعراق؛ تستقطب أنظار هؤلاء "المداخلة"، وكأنهم يعيشون في كوكب آخر، متجردين من أي مشاعر أو أحاسيس ينبغي أن يكون عليها المسلم.

    متناسين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد... إلى آخر الحديث)، إضافة إلى كثير من النصوص القرآنية والحديثية التي تحث وتدعو - بل وتوجب - التآخي بين المسلمين ونصرتهم والوقوف إلى جانبهم في أفراحهم وأتراحهم ومحنهم ومصائبهم.

    ويشبه دور هؤلاء "الدخلاء" [2] أو "المداخلة" إلى حد كبير؛ دور الصوفية في ما يتعلق بتهربهم من مسئولياتهم تجاه المسلمين في نصرتهم، إبان أزماتهم ونكباتهم والاكتفاء بما يسمونه "ذكراً" في حلقاتهم، في الوقت الذي تخوض الأمة غمار الحروب مع أعدائها في كل مكان.

    ولهذا وبدلا من أن يصطف أتباع هذا المنهج المنحرف مع المخلصين من أبناء الأمة في معركتهم مع أعداءهم، راحوا يثيرون الشبهات تلو الشبهات حول مسائل الجهاد والدفاع عن الأمة في وجه الحملات العاتية التي يشنها أعداءها، والتي بات لا يخلو منها بلد مسلم، مستخدمين ما عندهم من علم - وان كان قليلاً - لتشويه الحقائق عبر ليّ أعناق النصوص الشرعية، ووضعها في غير محلها، واستغلال المنابر الإعلامية التي سخرها لهم أعداء الإسلام، أو من يسيرون في ركابهم.

    3) مناصرة الحكومات الطاغوتية:

    دأب "المداخلة" على الدفاع المستميت عن الحكومات الطاغوتية التي لا تحكم بشرع الله، وتأييد سياساتها، حتى لو أدت إلى القضاء على الإسلام وطمس معالمه، وترى القائمين على هذا الفكر يؤيدون كل حاكم - حتى وإن كان مسلما بالهوية - مع ما يقوم به من إفساد وتدمير لبلاد المسلمين، ناهيك عن الحرب الشعواء التي يشنها هؤلاء الحكام على الدعاة والمصلحين وامتلاء سجونهم بأخيار الأمة المدافعين عن بقاءها ووجودها.

    ومما يلاحظ على أصحاب هذا الفكر؛ ترديدهم لكلمة "ولي الأمر" كثيراً، حيث أنهم لا يتوانون عن اعتبار كل حاكم في بلاد المسلمين - مهما بلغت عمالته وحربه على الإسلام - وليا لأمر المسلمين، معارضين بذلك النصوص الشرعية التي تبين وبجلاء صفة ولي أمر المسلمين، وما ينبغي أن يكون عليه، وشروط هذه الولاية، التي أقل ما يجب أن تكون فيها منافحته عن الدين ودفاعه عن حرمات المسلمين - التي فرط بها عامة أولياء أمورهم، إن لم يكن كلهم - فضلا على مظاهرة البعض منهم علانية لأعداء الله من اليهود والنصارى ومعاونتهم على المسلمين.

    ولقد لوحظ على هؤلاء "المداخلة" مسارعتهم في هؤلاء الحكام الخونة، وتأييدهم لهم - بغض النظر عن كل ما يفعلونه - حتى وصل بهم الحال إلى عملهم كجواسيس وعيون لهم، ونقلهم لأخبار المجاهدين والدعاة والمصلحين إليهم، وإيقاعهم بالكثير من أخيار الأمة في حبائل هذه الحكومات، وزجهم في سجونها، بل وقتل البعض منهم بسبب وشاياتهم.

    والغريب؛ أن هذه الفئة الضالة تعتبر ما تقوم به من خيانة للمسلمين وخدمة للطغاة والمجرمين، هو عمل يتقربون به إلى الله سبحانه وتعالى، لينطبق عليهم قوله تعالى: {قلْ هلْ ننبئكُمْ بالأخْسرينَ أعمالاً * الذينَ ضَلَّ سعيهُمْ في الحياةِ الدُنيا وهمْ يحسبُونَ أنّهُمْ يحسنُون صُنْعا} [الكهف: 104].

    يقول ابن كثير رحمه الله في مختصر تفسير هذه الآية: (ومعنى هذا عن عليّ رضي الله عنه أن هذه الآية الكريمة تشمل الحرورية – الخوارج - كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم، لا أنها نزلت في هؤلاء على الخصوص ولا هؤلاء، بل هي أعمّ من هذا، فان هذه الآية مكيّة قبل خطاب اليهود والنصارى، وقبل وجود الخوارج بالكلية، وإنما هي عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب انه مصيب فيها وان عمله مقبول، وهو مخطئ وعمله مردود).

    4) دورهم في الحملة الصليبية المعاصرة:

    لم يتوقف دور هؤلاء الضلاّل على كل ما ذكرناه آنفاً، بل أن الأمر وصل إلى درجة من الخطورة بمكان، حيث أنهم راحوا يجوّزون لأنفسهم التعاون مع أعداء الأمة من الكفار والمرتدين والمنافقين، لضرب المجاهدين والدعاة والمصلحين.

    ولعل أحداث العراق الراهنة تبين - وبكل وضوح - الدور الخبيث الذي يلعبه هؤلاء المنحرفون عن جادة الإسلام في موالاتهم للمحتل الأجنبي في العراق.

    إضافة إلى موالاتهم للرافضة المتواطئين مع أسيادهم الصليبيين، ضاربين عرض الحائط كل النصوص الشرعية التي تحرم عليهم موالاة أعداء الإسلام.

    ويتجلى هذا الأمر بوضوح؛ في تعاونهم مع قوات الاحتلال - بصورة مباشرة أو غير مباشرة - فاقل ما يمكن أن يفعلوه هو إثارة الشبهات حول الجهاد، وادعائهم على عدم القدرة على مواجهة الأعداء، وجواز حكم الكافر للمسلم، مستدلين بأدلة واهية لا تستحق الرد عليها.

    فهذا المدعو العبيكان؛ لم يدع مناسبة إلا واستغلها في الطعن بالمجاهدين وترسيخ فكر الانهزام والاستسلام في الأمة، والقبول بما يسمونه "الأمر الواقع"، ولو كان على حساب حقوق المسلمين وآلامهم وإحزانهم، فكل ما جرى في العراق من قتل وتدمير وهتك للأعراض لم يحرك فيه ساكنا - في الوقت الذي حركت صور تعذيب السجناء في أبي غريب وغيرها؛ البعض من الكفار من أهل الغرب، وهالهم ما رأوه وسمعوه عن جرائم تندى لها الجباه وتقشعر لها الأبدان، فخرجوا في تظاهرات جابت بعض شوارعهم شجبا لهذه الأفعال الدنيئة المجرمة –

    فالعبيكان وأمثاله؛ لا يضيرهم أن تحتل أرض للمسلمين، أو ينصب عليها راية للصليب، ولا أن تهتك أعراض المسلمات، أو يقتل رجالهم، وترمل نساءهم، وييتم أطفالهم، فالمهم عندهم هو رضا ولي الأمر المتربع على كرسيه الزائل، والحرص على طاعته - وان كانت في طاعته معصية لله سبحانه - ضاربين عرض الحائط قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)"، فمثلهم لا يهمهم سوى الظفر بعيش هانئ وبطن مملوءة وأمن كاذب، ولا ضير حينئذ أن يستظلوا براية غير راية الإسلام، أو أن يُحكموا بشريعة غير شريعة رب الأنام.

    5) دورهم في العراق الجريح:

    لقد ظهر هؤلاء المبتدعة من دعاة "الفكر المدخلي" في العراق - وهم قلة، موتورون، ومنبوذون - على شاشة "الفضائية العراقية" الرافضية، الممولة من قبل اليهود والنصارى، ليطعنوا ويشنعوا بالمجاهدين الذين يبذلون أرواحهم ومهجهم للدفاع عن دين الله تعالى.

    ولقد تطاول هؤلاء الأوغاد كثيرا، حتى وصفوا المجاهدين بأشنع الأوصاف، ومنها ما قالوه بأن المجاهدين خوارج وتكفيريون وقتلة للمدنيين والأبرياء.

    ولقد بلغ الأمر بالمدعو "أبو منار" رائد هذا الفكر في العراق إلى تسمية قائد "لواء الذئب" الرافضي المجرم - هذا اللواء الرافضي اللعين، والمنبثق من ما يسمى بـ "فيلق بدر" سيء الصيت، الذي قتل الكثير من أهل السنة في العراق وهتك أعراضهم وانتهك حرماتهم - يسمي قائد هذا اللواء بـ "أخينا أبو الوليد"، في الوقت الذي لم يكف لسانه عن الوقوع في المجاهدين والطعن بهم والتأليب عليهم، هو ومن معه من حثالات، مثل المدعو "أبو الحارث" و "أبو صفوة"، وهذا الأخير قال كلاما لا يقوله إلا منافق أشِر أو جاهل أحمق، حينما قال: (إن الله يسّر لنا لواء الذئب)!

    فهل بعد هذا الكلام كلام؟ وهل يحتاج المرء إلى دليل وبينة لمعرفة خطورة هذا الفكر وما يرومه أعداء الإسلام من ترويجهم له ونشره ودعمه وتأييده؟

    وهل يقول من يمتلك أدنى معرفة بالرافضة، ومن عنده مسكة من عقل وغيرة على الدين مثل هذا؟ فكيف له أن يستبشر بأعداء الإسلام؟ وأنّى له أن يواليهم ويدعو إلى نصرتهم؟ وهم يفعلون الأفاعيل بأهل السنّة هناك على مرأى ومسمع من العالم؟

    فوالله الذي لا اله إلا هو، فما قاله هذا الدّعي الضال هو محض افتراء على الله سبحانه، وهو القائل عزّ وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18].

    فكيف يزعم هذا الأفاك الضال؛ بأن ما يفعله الرافضة المجرمون، من قتل وسفك للدماء وهتك للأعراض؛ هو تيسير من الله؟! تعالى الله عما يقوله هذا الكذاب علوا كبيرا.

    كل هذا يبين - بما لا يقبل الشك - بأن هذا الفكر ينطوي على مخاطر جمة، تهدد كيان الإسلام عامة، والمنهج السلفي خاصة، إن لم يبادر المخلصون من هذه الأمة إلى كشف حقيقتهم والتصدي لهم وبيان زيفهم وبطلانهم.

    وإني - يا أخوتي - ليحزنني أن أذكر أسماء هؤلاء بأعيانهم، فان اللسان ليعف عن مثلهم، ولكن ذكر الأسماء مطلوب أحياناً من باب توقي الشر وفضحه وبيان عوّاره، وكما يقول الشاعر:

    عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه

    ولقد قيل لسفيان بن عيينة: (إن هذا يتكلم في القدر) - يعني إبراهيم بن يحيى - فقال سفيان: (عرّفوا الناس أمره، وسلوا الله لي العافية).

    فما بالهم - هؤلاء الذين تسمّوا بالسلفية، والسلفية منهم براء - يسمون الرافضة؛ إخوانهم؟! ويستسيغون التعامل مع المحتل الأجنبي الذي سفك الدماء وهتك الأعراض؟! متآلبين على إخوانهم من أهل السنة والجماعة.

    وليت شعري؛ أين هم من كبار السلف الصالح، من أمثال الأمام أحمد، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وعبد الله بن المبارك، والإمام محمد بن عبد الوهاب... وغيرهم ممن أفنوا حياتهم في الدفاع عن هذه الأمة والوقوف بوجه أعدائها؟

    ولكن هيهات ثم هيهات، فأين الثرى وأين الثريا؟ فهم - والله - ليسوا إلا حفنة من الخونة والجهال والمنتفعين، جمعهم الجهل بدين الله، وأهواء أعمت بصائرهم، وعرض من الدنيا زائل، أغراهم أعداء الله به، فلا يرون الحق حقاً ولا الباطل باطلاً.

    ولقد أدى هذا الدور المشين - الذي تقوم به هذه الفئة الضالة - إلى احتضان أعداء الله لهم، وإبرازهم في وسائل الإعلام، ليستخدموهم في نشر الأباطيل والشبه والأراجيف بين الناس، بغية تضليلهم وتلبيس الحقائق عليهم.

    شبهات واهية:

    1) شبهة القلة والكثرة:

    تدّعي هذه الفئة الضالة؛ بأن المسلمين اليوم من الضعف والهوان والقلة، مما يجعلهم غير قادرين على مواجهة أعداءهم.

    وهذه شبهة واهية، تردها نصوص كثيرة من الكتاب والسنّة، لا يسع المقام لذكرها، ولكني اختار لهم آيتين من كتاب الله تلقم أفواههم.

  • يقول تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].

  • وقَال تعالى: {واذكروُا إذ انتم قليلٌ مستضعفونَ في الأرضِ تخافون أنْ يتخطّفَكُم الناسُ فآواكم وأيّدَكُمْ بنصْرهِ ورزقًكُم مِنَ الطيّباتِ لعلّكمْ تشْكروُن} [الأنفال: 26].

    فأين هم من حروب المسلمين مع أعداءهم على مر هذا الزمان؟ فهل كانوا في كل وقعة يدخلونها كثرة أم قلة؟... ألم يقرؤوا تاريخ المسلمين والمعارك والغزوات التي خاضوها؟ هل كانوا يضعون حساباً لعدد أو عدة لمواجهة أعداءهم؟ أم أن توحيدهم وإيمانهم بنصر الله وطاعتهم له ولرسوله عليه الصلاة والسلام كانت سبب انتصارهم وتمكينهم في الأرض؟

    2) مسألة الأخذ بالأسباب:

    فهم يرددون؛ بأن أسباب النصر على الأعداء غير متوفرة الآن.

    وهي فرية أخرى، إن آمنا بها فلن تقوم للمسلمين قائمة يوماً ما.

    فأما قولهم؛ بأن علينا الأخذ بالأسباب؛ فهذا أمر مشروع وواجب، ولا يختلف عليه أحد.

    وأما قولهم؛ بأن المسلمين لا تتوفر عندهم هذه الأسباب الآن؛ فهذا أمر مردود ترده نصوص الكتاب والسنّة الداعية إلى جهاد أعداء الله، بعد الأخذ بالأسباب المتاحة المتعلقة بالقدرة والاستطاعة، ألم يقل رب العزة والجلال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]، فالأمر إذا متعلق بالاستطاعة - أي غاية ما يستطيعه الإنسان من إعداد إيماني وبدني - وبعد ذلك ليس سوى التوكل على الله تعالى، أخذا بقوله سبحانه: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].

    يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {واعدُّوا لهم ما استطعتمْ منْ قوّة ٍومنْ رباطِ الخيلِ... الآية}: (ثم أمر تعالى؛ بإعداد آلات الحرب لمقاتلتهم حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة، فقال: {واعدُّوا لهمْ ما استَطعتمْ}، أي مهما أمكنكم).

    ولو أخذ المسلمون بـ "المبدأ المدخلي" في جهاد أعداء الله، لما قام جهاد على وجه الأرض، ولما خاض المسلمون أية معركة، لأنهم في كل مرة أقل عدداً وعدة من أعداءهم.

    إن خلط الأوراق بين الأخذ بالأسباب المشروعة في الإعداد، وبين الارتماء في أحضان الأعداء؛ بات لا ينطلي على الواعين من أفراد هذه الأمة.

    ولو سلمنا بالقول القائل؛ بأنه ليست لنا القدرة على مواجهة أعداءنا، فهل هذا يعطي الحق لكائن من كان بان يكون عونا للأعداء على المسلمين؟

    3) أصول تلاعبوا بها:

    استغل أدعياء العلم هؤلاء؛ جهل البعض ببعض القواعد والأصول الشرعية، وراحوا يرددون كلاما ظاهره صحيح، ولكنه في حقيقته ليس سوى سمّا زعافا، يراد به قتل عقيدة المسلمين، والذهاب بدينهم، مثل استخدامهم الخاطئ للقاعدة الأصولية القائلة؛ "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"، حيث أنهم أساؤوا عن جهل - أو عمد - استخدام هذه القاعدة، ووضعوها في غير موضعها.

    وراحوا يعطلون الكثير من الأحكام تحت ذريعة المفسدة، ومنها الجهاد في سبيل الله والدفاع عن الدين، وتحت حجج واهية، أوهى من بيت العنكبوت.

    فإنهم يعتبرون مناجزة المسلمين لاعداءهم؛ ليس سوى مفسدة، بسبب عدم قدرة المسلمين، وان درء المفسدة المترتبة على هذا الأمر - كما يزعمون - مقدم على أية مصلحة أخرى، أو أن تدرأ المفسدة الكبرى بأخرى أصغر منها، أي أن احتلال بلاد المسلمين من قبل أعداءهم - في ظنهم - هو أهون وأقل ضرراً من مواجهتم - هذا إن اعتقدوا بأن احتلال بلاد المسلمين هو مفسدة أصلا! -

    إن الأصول التي يحاولون الاستشهاد بها، هي أصول شرعية، لا غبار عليها إن استخدمت استخداماً صحيحاً يجيزه الشرع الحنيف، ولكن أن تجعل وسيلة، غايتها تضليل الناس وخداعهم، فحينئذ تكون؛ كلمات حق يراد بها باطل.

    فأي مفسدة أعظم من ذهاب الدين؟! وأي فتنة اشد من مجيء الكفار إلى بلاد المسلمين ومعهم أتباعهم من الرافضة والمنافقين ليعيثوا فيها فساداً وخراباً وليبدلوا ملة إبراهيم القائمة على التوحيد بملة الكفر والشرك وعبادة الأصنام والقبور؟! وأي مهلكة تنتظر المسلمين حينما يحتلهم من يسعى إلى نشر عقيدة التثليث بينهم، وإباحة الرذيلة والفساد فيهم؟! فالكفر عقيدتهم، والزنا واللواط شعارهم، والخمر والمخدرات سبيلهم.

    ولكم أن تتخيلوا ما يمكن أن تجلبه هذه الآفات من تفسخ خلقي وتدمير اجتماعي وضياع للأسر وذهاب للمجتمعات المسلمة، فلا خير في حياة لا دين فيها، سوى دين اليهود والنصارى والرافضة وأمثالهم، ولا خير في دنيا يتخلى فيها المرء عن دينه، الذي هو أعظم ما يملك في هذا الوجود، ويرضى بالعيش في كنف من أعلنها حربا على الإسلام، نزولا عند رغبات وفتاوى من لا يهمه سوى نفسه وإرضاء ولي أمره.

    وهكذا ففي كل مرة؛ يطلع علينا واحد من هؤلاء "المداخلة" بوجهه الكالح، ليردد عبارات مغلفة بالسم، داعياً إلى مهادنة الأعداء - بحجة أو بأخرى - ناسياً أو متناسياً الآيات والأحاديث التي وردت في هذا الباب، والتي تحث المسلمين على محاربة أعداءهم، ولا سيما وهم يحتلون بلاد المسلمين، وتحت راية صليبية أعلنوا عنها من غبر مواربة.

    فالجهاد - كما هو معلوم - جهاد دفع وجهاد طلب، فان كان جهاد الطلب من فروض الكفاية، فلم يختلف أحد من أهل العلم على أن جهاد الدفع من فروض الأعيان، ولا يحتاج إلى إذن احد، حيث أنهم يدندنون حول شبهة موافقة ولي الأمر، وهذه الموافقة غير مشترطة في جهاد الدفع، حين يحتل الأعداء بلاد المسلمين، هذا إذا كان هناك ولي للأمر يوثق به ويرجع إليه!

    يقول شيخ الإسلام بن تيمية: (وأما قتال الدفع؛ فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين، فواجب إجماعا، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا؛ لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط، بل يدفع بحسب الإمكان، وقد نص على ذلك العلماء وأصحابنا وغيرهم) [الفتاوى: 4/520].

    دعوة إلى مخلصي الأمة:

    إني أدعو كافة المخلصين من خيار هذه الأمة؛ إلى توخي الحذر من هذه الفرقة الضالة، التي ركبت موجة السلفية، وراحت تطعن في ظهرها، المستخدمة من قبل أعداء الإسلام لإثارة الشبهات حول ثوابت الأمة وأصولها، والتي تحاول أن تسخر بعض ما تعلمته من علم شرعي؛ لنشر الفتنة بين صفوف المسلمين، والتلبيس عليهم، على غرار ما كان يقوم به المستشرقون من دور خبيث لتشويه تاريخ المسلمين، بعد أن درسوا الإسلام وأخذوا منه ما يفيدهم في مهمتهم الهادفة إلى طمس معالمه وتحريف تاريخه.

    وتبقى خطورة هؤلاء قائمة بسبب انتهاجهم للمنهج السلفي - زوراً وبهتاناً - ولدعم الحكومات لهم، وتوفر الأجواء المناسبة لنشر أباطيلهم.

    ولذا كان لزاماً على المسلمين التحلي بالعلم الشرعي، لمعرفة دينهم، وللوقوف أمام هؤلاء المنحرفين الضالين وأشباههم، بغية الرد على شبهاتهم وأكاذيبهم.

    وهي مع تفاهتها وضعف حجتها، إلا إنها قد تنطلي على بعض الجهال من قليلي العلم، فيؤدي ذلك إلى افتتانهم، وربما السير في ركابهم، حيث أننا لاحظنا بان بعض من انتهج المنهج السلفي قد اغتر فعلاً بدعوى هؤلاء الضالين - من حيث لا يدري - معتقداً بأن ما يدّعونه من إتباع لمنهج السلف هو حقيقة وليس كذباً، بعد أن خدعوا بكلامهم المعسول، ومظهرهم الكاذب الخدّاع.

    وإننا وان كنا نعلم علم اليقين بأن حجم هؤلاء قليل، وأثرهم لا يكاد يذكر، ولكن المبتدعة في كل زمان ومكان - وان كانوا قلة - فإن التحذير منهم واجب، وكشف حقيقتهم للملأ أمر لابد منه، ولاسيما بأن أعداء الإسلام بدأوا يستخدمونهم لتنفيذ مآربهم الدنيئة الهادفة للقضاء على الإسلام - خابوا وخسروا -

    ومن باب الإنصاف؛ لابد من القول بأن بعض الأفراد ممن يحسبون على هذا الفكر، ليسوا مطلعين تماماً على ما يدعوا إليه رؤوس هذه الفرقة الضالة، وما وقع مثل هؤلاء البسطاء في براثن هذه الفكر المنحرف الضال سوى حبّهم للمنهج السلفي والعمل بسنّة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنّا قد أشرنا آنفا بان النية لوحدها لا تكفي.

    وهذا سفيان الثوري رحمه الله - أمير المؤمنين في الحديث ومن كبار زهاد الأمة - يقول: (لا يقبل قول إلا بعمل، ولا يستقيم قول وعمل إلا بنية، ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بموافقة السنّة).

    ويجب على كل من اغتر بهذا الفكر الهدام؛ معرفة الحق واتباعه، وان يدور حيث دار الحق، ولا يلهث وراء كل ناعق وان ادعى وزعم، ومن أشكل عليه معرفة الحق نتيجة تزاحم الشبهات وكثرتها؛ فعليه بالرجوع إلى الصادقين من علماء الأمة وطلبة العلم لديهم، كي يرشدوهم إلى الطريق الصحيح، ولا يجعلون المظاهر لوحدها حكَما لمعرفة الآخرين، فاللحية والثوب القصير من سنن المصطفى عليه الصلاة والسلام، ومن الواجب العمل بهنّ، ولكن هذا السنن لا تكفي لكي تجعل الإنسان أي إنسان مزكى وأهلا للإتباع.

    فهناك الأصل العظيم - الذي اشرنا إليه - وهي العقيدة الصحيحة، المبنية على التوحيد الخالص، والتي تنبثق منها عقيدة الولاء والبراء، فما فائدة أن يتّسم الإنسان بمظهر سنّي وهو موال لأعداء الله من اليهود والنصارى والرافضة وغيرهم؟! وما جدوى ادعاءه بإتباع منهج السلف الصالح وهو مستغرق بنشر الفتن وإثارة الشبهات حول جهاد أعداء الله ودعوته إلى الاستسلام لهؤلاء الأعداء تحت ذريعة أو أخرى، ومن ثم الرضا بشريعة غير شريعة الإسلام بزعم الضعف وعدم القدرة - كذبا وزورا -؟!

    وهو بفعله هذا؛ يجافي ما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم، ويخالف ابسط قواعد السنّة التي يزعم إتباعها، والتي تدعو إلى مجاهدة الأعداء ومنابذة الكافرين، والسعي إلى إقامة دولة الإسلام، ورفع رايته خفاقة في أرجاء المعمورة، بعيداً عن حسابات الكثرة والقلة، والربح والخسارة، التي لم تكن يوما ذات أهمية عند المسلمين، ولو كانت كما يزعم دعاة هذا الفكر الضال؛ لما قامت للإسلام قائمة.

    وأخيراً...

    فإن الفكر المدخلي أصبح من الخطورة بمكان، مما يستوجب على كل مخلص من مخلصي هذه الأمة أن يتحمل مسؤولية فضحه وبيان زيفه وكشف من يدعو إليه، كي يجنب الناس شره والوقوع في حبائله، ولا سيما الشباب المحب للسنّة وإتباع منهج السلف رضوان الله عليهم.



    [1] للمزيد حول هذه الشخصية؛ يمكن مراجعة كتاب "شهادة قادة المجاهدين والإصلاح على علماء السلطان في بلاد الحرمين" للشيخ أبي مصعب السوري، وكتاب "ابن باز مفتي مملكة آل سعود" [المنبر].

    [2] ولقد سميتهم دخلاء، لأنهم دخلاء فعلا على المنهج السلفي الذي كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم.
  • إرسال تعليق

     
    Top